[6] وقفَة مع آية (الحديد:20)




 
  قال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [الحديد:20]

»يُخبر تعالى عن حقيقة الدنيا وما هي عليه، ويبين غايتها وغاية أهلها، بأنها لعب ولهو، تلعب بها الأبدان، وتلهو بها القلوب!

وهذا مصداقه ما هو موجودٌ وواقع من أبناء الدنيا؛
فإنك تجدهم قد قطعوا أوقات أعمارهم بلهو القلوب، والغفلة عن ذكر الله وعمّا أمامهم من الوعد والوعيد...

بخلاف أهل اليَقَظة وعُمّال الآخرة،
فإنَّ قلوبهم مَعمورةٌ بذكر الله، ومعرفته ومحبّته، وقد أشغلوا أوقاتهم بالأعمال التي تقرِّبهم إلى الله، من النفع القاصر والمُتَعدّي.

وقوله: {وَزِينَةً} أي: تزيّن في اللباس والطعام والشراب، والمراكب والدور والقصور والجاه...

{وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} أي: كلُّ واحد من أهلها يريد مُفاخرة الآخر، وأن يكون هو الغالب في أمورها، والذي له الشهرة في أحوالها،

{وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} أي: كلٌّ يريد أن يكون هو الكاثر لغيره في المال والولد،
وهذا مصداقه وقوعه من مُحبّي الدنيا والمطمئنّين إليها،
بخلاف من عَرَف الدنيا وحقيقتها،
فجعلها مَعبرًا ولم يجعلها مُستقرًّا، 
فنافس فيما يُقرّبُه إلى الله، واتَّخذ الوسائل التي توصله إلى الله
وإذا رأى من يُكاثره وينافسُه بالأموال والأولاد، 
نافَسَه بالأعمال الصالحة.

ثم ضَرَبَ (الله) للدنيا مثلا:
بغَيث نزل على الأرض، فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام، 
حتى إذا أخذت الأرض زخرفها، وأَعجب نباتُها الكفارَ الذين قَصَروا همّهم ونظرهم إلى الدنيا
*جاءها من أمر الله [ما أتلفها] فهاجَت ويبست، فعادت على حالها الأولى، كأنه لم ينبت فيها خضراء، ولا رؤي لها مرأى أنيق
كذلك الدنيا، بينما هي زاهيةٌ لصاحبها زاهرة...
إذ أصابها القدر بما أذهبها من يده، وأزال تسلّطه عليها، أو ذهب به عنها،
فَرحل منها صفر اليدين، لم يتزوّد منها سوى الكفن،
فتبًّا لمن أضحَت هي غاية أمنيته ولها عمله وسعيه
وأما العمل للآخرة فهو الذي ينفع، ويُدَّخر لصاحبه، ويصحب العبد على الأبد،

ولهذا قال تعالى: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} 

أي: حال الآخرة، ما يخلو من هذين الأمرين:
 إما العذاب الشديد في نار جهنم، وأغلالها وسلاسلها وأهوالها لمن كانت الدنيا هي غايته ومنتهى مطلبه، فتجرَّأ على معاصي الله، وكذَّب بآيات الله، وكفر بأنعم الله .

وإمّا مغفرة من الله للسيئات، وإزالة للعقوبات، ورضوان من الله، يحل من أحلَّه به دار الرضوان لمن عرف الدنيا، وسعى للآخرة سعيها.


فهذا كله مما يدعو إلى الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة،

ولهذا قال: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}

أي: إلا متاعٌ يُتَمتَّع به ويُنتفَع به، وتُستدفَع به الحاجات، لا يَغترُّ به ويطمئنُّ إليه إلا أهلُ العقول الضعيفة الذين يغرّهم بالله الغرور

"تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان - للسعدي"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق